فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}.
وهو يوم القيامة، والصور: هو البوق الذي يُنفخ فيه النفخة الأولى والثانية، كما جاء في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].
وقوله تعالى: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102].
أي: نجمعهم ونسوقهم زُرْقًا، والزُّرْقة هي لونهم، كما ترى شخصًا احتقن وجهه، وازرقَّ لونه بسبب شيء تعرَّض له، هذه الزُّرْقة نتيجة لعدم السلام والانسجام في كيماوية الجسم من الداخل، فهو انفعال داخلي يظهر أثره على البشرة الخارجية، فكأن هَوْلَ القيامة وأحداثها تُحدِث لهم هذه الزرقة.
والبعض يفسر {زُرْقًا} [طه: 102] أي: عُمْيًا، ومن الزُّرْقة مَا ينشأ عنها العمى، ومنها المياه الزرقاء التي تصيب العين وقد تسبب العمى.
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)}.
أي: في هذه الحال التي يُحشرون فيها زرقًا {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} [طه: 103] أي: يُسِرُّون الكلام، ويهمس بعضهم إلى بعض، لا يجرؤ أحد منهم أنْ يجهر بصوته من هَوْل ما يرى، والخائف حينما يلاقي من عدوه مَا لا قِبلَ له به يُخفِي صوته حتى لا يُنبهه إلى مكانه؛ أو: لأن الأمر مَهوُل لدرجة الهلع الذي لا يجد معه طاقة للكلام، فليس في وُسْعه أكثر من الهَمْس.
فما وجه التخافت؟ وبِمَ يتخافتون؟
يُسِرُّ بعضهم إلى بعض {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} [طه: 103] يقول بعضهم لبعض: ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام، ثم يُوضِّح القرآن بعد ذلك أن العشرة هذه كلامهم السطحي، بدليل قوله في الآية بعدها: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} [طه: 104].
فانتهت العشرة إلى يوم واحد، ثم ينتهي اليوم إلى ساعة في قوله تعالى حكاية عنهم: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] فكُلُّ ما ينتهي فهو قصير.
إذن: أقوال متباينة تميل إلى التقليل؛ كأن الدنيا على سَعة عمرها ما هي إلا ساعة: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35].
وما هذا التقليل لمدة لُبْثهم في الدنيا إلا لإفلاسهم وقِلَّة الخير الذي قدَّموه فيها، لقد غفلوا فيها، فخرجوا منها بلا ثمرة؛ لذلك يلتمسون لأنفسهم عُذْرًا في انخفاض الظرف الزمني الذي يسَع الأحداث، كأنه لم يكُنْ لديهم وقت لعمل الخير؟؟
ثم يقول الحق سبحانه: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ}.
الحق تبارك وتعالى يقصُّ على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا ما سيكون من أمر هؤلاء المجرمين في الآخرة، فإذا ما وقعتْ القيامة جاءت الصورة كما حكاها الله لرسوله هي هي؛ ذلك لأن الله تعالى وسع كل شيء علمًا.
وهذا القول الذي حكاه القرآن عنهم أمر في اخيتارهم، وقد سمعوا ذلك من رسول الله، وبوسعهم ألاَّ يقولوا، لكن إذا جاءت القيامة فسوف يقولونه بالحرف الواحد لا يُغيِّرون منه شيئًا.
وقوله: {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} [طه: 104] يعني: أحسنهم حُكْمًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ}:
{يومَ} بدل من {يومَ القيامة} أو بيانٌ له، أو منصوبٌ بإضمار فعل، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وبُني على الفتحِ على رأي الكوفيين كقراءةِ {هذا يَوْمَ يَنفَعُ} [المائدة: 119] وقد تقدم.
وقرأ أبو عمروٍ {نَنْفُخُ} مبنيًا للفاعل بنونِ العظمة، أُسْنِدَ الفعلُ إلى الآمِر به تعظيمًا للمأمورِ، وهو المَلَكُ إسرافيل. والباقون بالياءِ مضمومةً مفتوحَ الفاءِ على البناءِ للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ بعدَه. والعامَّةُ على إسكانِ الواو. وقرأ الحسنُ وابنُ عامرٍ في روايةٍ بفتحها جمعَ صُوْرَة كغُرَف جمع غُرْفَة. وقد تقدَّم القولُ في {الصور} في الأنعام.
وقرئ {يَنْفُخُ} و{يَحْشُر} بالياءِ مفتوحةً مبنيًا للفاعل، وهو الله تعالى أو المَلَكُ. وقرأ الحسنُ وطلحةُ وحميدٌ {يُنْفَخ} كالجمهور و{يَحْشر} بالياءِ مفتوحةً مبنيًا للفاعل. والفاعلُ كما تقدَّم ضمير الباري أو ضميرُ المَلَك. ورُوي عن الحسن أيضًا و{يُحْشَر} مبنيًا للمفعول {المجرمون} رفعٌ به. و{زُرْقًا} حال من المجرمين. والمرادُ زُرْقَةُ العيونِ. وجاءَتِ الحالُ هنا بصفةٍ تشبه اللازمةَ؛ لأنَّ أصلَها على عَدَمِ اللزومِ، ولو قلتَ في الكلامِ: جاءني زيدٌ أزرقَ العينِ لم يَجُزْ إلاَّ بتأويلٍ.
قوله: {يَتَخَافَتُونَ}:
يجوز أَنْ يكونَ مستأنفًا، وأن يكونَ حالًا ثانية من {المجرمين}، وأن يكونَ حالًا من الضميرِ المستتر في {زرقًا} فتكونَ حالًا متداخلةً إذ هي حالٌ من حال. ومعنى {يَتَخافَتُون} أي: يتساْرُّوْن فيما بينهم.
وقوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ} هو مفعولٌ المَسارَّة. وقوله: {إِلاَّ عَشْرًا} يجوز أن يُرادَ الليالي، فَحَذْفُ التاءِ من العددِ قياسٌ، وأن يرادَ الأيامُ فيُسألَ: لم حُذِفت التاء؟ فقيل: إنْ لم يُذْكَرِ المميِّز في عددِ المذكرِ جازت التاءُ وعدمُها. سُمع من كلامهم صُمْنا من الشهر خمسًا والمَصُوْمُ إنما هو الأيامُ دون الليالي. وفي الحديث: «مَنْ صامَ رمضانَ وأتبعه بسِتٍّ من شوال» وحَسُن الحذف هنا لكونِه رأسَ آيةٍ وفاصلة.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)}.
قوله: {إِذْ يَقُولُ}: منصوبٌ ب {أعلمُ} و{طريقةً} نصبٌ على التمييز. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)}.
قومٌ يومُ القيامة لهم مُؤجَّل، وهو بعد النفخ في الصُّور على ما وَرَدَ في الكتاب وفي الخبر المأثور.
وللآخرين قيامةٌ مُعَجَّلةٌ؛ فيها محاسبة وعليهم فيها مطالبة، وهوان حاضر وعذاب حاصل، فكما تَرِدُ على ظواهرِ قوم في الآخرة عقوباتٌ، تَرِدُ على سرائر آخرين عقوباتٌ في لاحياة الحاضرة، والمعاملةُ مع كلِّ أحدٍ تخالف المعاملةَ مع صاحبه.
قوله: {يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ} مَنْ تَفَرَّغَ لِعَدِّ الأوقاتِ والتمييز بين اختلاف الحالات فنوعٌ غير مستوفٍ في بلائه، وأمره سهلٌ... ومَنْ كان يُرَادُ المعنى من حديثه لا يتفرغ إلى نعت الحال؛ فالأحوال تخبر عنه وهو لا يُسْأَلُ عن الخبر. اهـ.

.تفسير الآيات (105- 110):

قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أخبر عن بعض ما سبق ثم عن بعض ما يأتي من أحوال المعرضين عن هذا الذكر فيما ينتجه لهم إعراضهم عنه، وختم ذلك باستقصارهم مدة لبثم في هذه الدار، أخبر عن بعض أحوالهم في الإعراض فقال: {ويسألونك عن الجبال} ما يكون حالها يوم يتفخ في الصور؟ شكا منهم في البعث وقوفًا مع الوهم في أنها تكون موجودة على قياس جمودهم لا محالة، لأنها أشد الأشياء قوة، وأطولها لبثًا، وأبعدها مكثًا، فتمنع بعض الناس من سماع النفخ في الصور، وتخيل للبعض بحكم رجع الهواء الحامل للصوت أنه آتٍ من غير جهته فلا يستقيم القصد إلى الداعي {فقل} أي فتسبب عن علمنا بأنهم يسألونك هذا السؤال أنا نقول لك: قل، أو يكون على تقدير شرط، أي فإذا سألوك فقل لهم، وهذا بخلاف ما نزل بعد وقوع السؤال عنه مثل الروح وقصة ذي القرنين فإن الأمر بجوابه على طريق الاستئناف لما هناك من استشراف النفس للجواب {ينسفها} أي يقلعها من أماكنها ويذريها بالهواء {ربي} المحسن إليّ بنصري في يوم القيامة نصرًا لا يبلغ كنهه {نسفًا} عند النفخة الأولى {فيذرها} أي أماكنها {قاعًا} أي أرضًا ملساء {صفصفًا} أي مستويًا كأنه صف واحد لا اثر للجبال فيه {لا ترى} أي بالبصر ولا بالبصيرة {فيها} أي مواضع الجبال {عوجًا} بوجه من الوجوه، وعبر هنا بالكسر هو للمعاني، ولم يعبر بالفتح الذي يوصف به الأعيان، ومواضع الجبال أعيان لا معاني، نفيًا للاعوجاج على أبلغ وجه، بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأراضي لا تفقوا على الحكم باستوائها، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا مقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك {ولا أمتًا} أي شيئًا مرتفعًا كالكدية أو نتوًّا يسيرًا أو شقًا أو اختلافًا؛ وقال البيضاوي والزمخشري: الأمت النتوّ اليسير، قال الغزالي في الدرة الفاخرة: ينفخ في الصور فتطاير الجبال، وتفجر الأنهار بعضها في بعض، فيمتلىء عالم الهواء ماء، وتنتثر الكواكب وتتغير السماء والأرض، ويموت العالمون فتخلو الأرض والسماء؛ قال: ثم يكشف سبحانه عن بيت في سقر فيخرج لهيب النار فيشتعل في البحور فتنشف، ويدع الأرض جمرة سوداء، والسماوات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب، ثم يفتح تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض، وهو كمنيّ الرجال فتنبت الأجسام على هيئتها، الصبى صبي، والشيخ شيخ، وما بينهما، ثم تهب من تحت العرش نار لطيفة فتبرز الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت، ثم يحيى الله إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة القدس، فتخرج الأرواح من ثقب في الصور بعددها كل روح إلى جسدها حتى الوحش والطير فإذا هم بالساهرة.
ولما أخبر سبحانه بنزول ما يكون منه العوج في الصوت قال: {يومئذ} أي إذ ينفخ في الصور فتنسف الجبال {يتبعون} أي أهل المحشر بغاية جهدهم {الداعي} أي بالنفخ منتصبين إليه على الاستقامة {لا عوج له} أي الداعي في شيء من قصدهم إليه، لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعريج ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء؛ وقال أبو حيان: أي لا عوج لدعائه، بل يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس.
ولما أخبر بخشوعهم في الحديث والانقياد للدعوة، أخبر بخشوع غير ذلك من الأصوات التي جرت العادة بكونها عن الاجتماع فقال: {وخشعت الأصوات} أي ارتخت وخفيت وخفضت وتطامنت لخشوع أهلها {للرحمن} أي الذي عمت نعمه، فيرجى كرمه، ويخشى نقمه {فلا} أي فيتسبب عن رخاوتها أنك {تسمع إلا همسًا} أخفى ما يكون من الأصوات، وقيل: أخفى شيء من أصوات الأقدام.
ولما تقرر ما للأصوات من الانخفات، وكان قد أشير فيما مضى إلى وقوع الشفاعة من بعض أخصائه بإذنه، وكان الحشر للحساب بمعرض التقريب لبعض والتبعيد لبعض، وكانت العادة جارية بأن المقرب يشفع للمبعد، لما بين أهل الجمع من الوصل والأسباب المقتضية لذلك، وكان الكفار يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم قال نافيًا لأن تقع شفاعة بغير إذنه، معظمًا ذلك اليوم بالإنذار منه مرة بعد مرة: {يومئذ} أي إذ كان ما تقدم {لا تنفع الشفاعة} أي لا تكون شفاعة ليكون لها نفع، لأنه قد ثبت بما مضى أنه لا صوت، وتقرر في تحقيق المحصورات من علم الميزان أن السالبة الحقيقية لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج، وإنما حول العبارة لأن المقصود بالذات النفع، فنفيه بادىء بدا أفظع، وقرع السمع به أولًا أهول وأفزع {إلا} أي إلا شفاعة {من أذن له الرحمن} العام النعمة {ورضي له قولًا} ولو الإيمان المجرد.
ولما نفي أن تقع الشفاعة بغير إذنه، علل ذلك- كما سلف في آية الكرسي- بقوله: {يعلم ما بين أيديهم} أي الخلائق وهو كل ما يعلمونه {وما خلفهم} وهو كل ما غاب عنهم علمه، أي علمه سبحانه محيط بهم، فهو يمنع قلوبهم في ذلك اليوم بما يوجد من الأسباب أن تهم بما لا يرضاه {ولا يحيطون به علمًا} ليحترزوا عما يقدره عليهم، و{علمًا} تمييز منقول من الفاعل، أي ولا يحيط علمهم به- قال أبو حيان.
والأقرب عندي كونه منقولًا عن المفعول الذي تعدى إليه الفعل بحرف الجر، أي ولا يحيطون بعلمه، فيكون ذلك أقرب إلى ما في آية الكرسي. اهـ.

.قال الفخر:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)}.
اعلم أنه تعالى لما وصف أمر يوم القيامة حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر فقال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال}.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} وفي تقرير هذا السؤال وجوه:
أحدها: أن قوله: {يتخافتون} [طه: 103] وصف من الله تعالى لكل المجرمين بذلك، فكأنهم قالوا: كيف يصح ذلك والجبال حائلة ومانعة من هذا التخافت وثانيها: قال الضحاك: نزلت في مشركي مكة قالوا: يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء.
وثالثها: لعل قومه قالوا: يا محمد إنك تدعي أن الدنيا ستنقضي فلو صح ما قلته لوجب أن تبتدىء أولًا بالنقصان ثم تنتهي إلى البطلان، لكن أحوال العالم باقية كما كانت في أول الأمر، فكيف يصح ما قلته من خراب الدنيا؟ وهذه شبهة تمسك بها جالينوس في أن السموات لا تفنى، قال: لأنها لو فنيت لابتدأت في النقصان أولًا حتى ينتهي نقصانها إلى البطلان، فلما لم يظهر فيها النقصان علمنا أن القول بالبطلان باطل، ثم أمر الله تعالى رسوله بالجواب عن هذا السؤال وضم إلى الجواب أمورًا أخر في شرح أحوال القيامة وأهوالها.
الصفة الأولى: قوله: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفًا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
إنما قال: {فَقُلْ} مع فاء التعقيب لأن مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر، فلا جرم أمره بالجواب مقرونًا بفاء التعقيب.
لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز، أما في المسائل الفروعية فجائزة، لذلك ذكر هناك قل من غير حرف التعقيب.
المسألة الثانية:
الضمير في قوله: {يَنسِفُهَا} عائد إلى الجبال والنسف التذرية، أي تصير الجبال كالهباء المنثور تذرى تذرية فإذا زالت الجبال الحوائل فيعلم صدق قوله: {يتخافتون} قال الخليل: {يَنسِفُهَا} أي يذهبها ويطيرها، أما الضمير في قوله: {فَيَذَرُهَا} فهو عائد إلى الأرض فاستغنى عن تقديم ذكرها كما في عادة الناس من الإخبار عنها بالإضمار كقولهم: ما عليها أكرم من فلان وقال تعالى: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} وإنما قال: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} ليبين أن ذلك النسف لا يزيل الاستواء لئلا يقدر أنها لما زالت من موضع إلى موضع آخر صارت هناك حائلة، هذا كله إذا كان المقصود من سؤالهم الاعتراض على كيفية المخافتة، أما لو كان الغرض من السؤال ما ذكرنا من أنه لا نقصان فيها في الحال فوجب أن لا ينتهي أمرها إلى البطلان، كان تقرير الجواب: أن بطلان الشيء قد يكون بطلانًا يقع توليديًا، فحينئذ يجب تقديم النقصان على البطلان وقد يكون بطلانًا يقع دفعة واحدة، وهاهنا لا يجب تقديم النقصان على البطلان، فبين الله تعالى أنه يفرق تركيبات هذا العالم الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة هاهنا إلى تقديم النقصان على البطلان.